عن أمير المؤمنين أبي حفص عمر بن الخطاب (رضي الله عنه) قال: سمعت رسول الله (صلى الله عليه وسلم) يقول: "إنما الأعمال بالنيات و إنما لكل امرئ ما نوى، فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله، فهجرته إلى الله ورسوله، ومن كانت هجرته لدنيا يصيبها أو امرأة ينكحها، فهجرته إلى ما هاجـر إليه". (رواه إماما المحدّثين: أبو عبد الله محمـد بن إسماعيل بن إبراهيم بن المغيرة بن بردزبه البخاري الجعفي، وأبو الحسين مسلم بن الحجاج بن مسلم القشيري النيسابوري في صحيحيهما اللذين هما أصح الكتب المصنفة).
شرح وفوائد الحديث
دل الحديث على أن النية معيار لتصحيح الأعمال ، فحيث صلحت النية صلح العمل ، وحيث فسدت فسد العمل ، ، وإذا وجد العمل وقارنته النية فله ثلاثة أحوال :
(الأول) : أن يفعل ذلك خوفاً من الله تعالى وهذه عبادة العبيد .
(الثاني): أن يفعل ذلك لطلب الجنة والثواب وهذه عبادة التجار.
(الثالث): أن يفعل ذلك حياء من الله تعالى وتأدية لحق العبودية وتأدية للشكر ، ويرى نفسه مع ذلك مقصراً ، ويكون مع ذلك قلبه خائفاً لأنه لا يدري هل قبل عمله مع ذلك أم لا ، وهذه عبادة الأحرار ، وإليها أشار رسول الله صلى الله عليه وسلم لما قالت له عائشة رضي الله عنها حين قام من الليل حتى تورمت قدماه : يا رسول الله !
أتتكلف هذا وقد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر ؟قال : (أفلا أكون عبداً شكوراً ؟). فإن قيل : هل الأفضل العبادة مع الخوف أو مع الرجاء ؟ . قيل : قال الغزالي رحمه الله تعالى : العبادة مع الرجاء أفضل ، لأن الرجاء يورث المحبة ، والخوف يورث القنوط .
وهذه الأقسام الثلاثة في حق المخلصين ، واعلم أن الإخلاص قد يعرض له آفة العجب ، فمن أعجب بعمله حبط عمله ، وكذلك من استكبر حبط عمله.
الحال الثاني : أن يفعل ذلك لطلب الدنيا والآخرة جميعها ، فذهب بعض أهل العلم إلى أن عمله مردود واستدل بقوله صلى الله عليه وسلم في الخبر الرباني: ((يقول الله تعالى : أنا اغنى الشركاء فمن عمل عملاً أشرك فيه غيري فأنا بريء منه )).
وإلى هذا ذهب الحارث المحاسبي في كتاب (( الرعاية )) فقال : الإخلاص أن تريده بطاعته ولا تريد سواه . والرياء نوعان : أحدهما : لا يريد بطاعته إلا الناس والثاني : أن يريد الناس ورب الناس ، وكلاهما محبط للعمل ، ونقل هذا القول الحافظ أبو نُعيم في ((الحلية ))عن بعض السلف ، واستدل بعضهم على ذلك أيضاً بقوله تعالى: الجَّبار الُمتَكِّبرُ سُْبحَان الله عَمّا يُشْركوْنَ ) (الحشر : 23) ، فكما أنه تكبر عن الزوجة والولد والشريك ، تكبر أن يقبل عملاً أشرك فيه غيره ، فهو تعالى أكبر ، وكبير ، ومتكبر .
وقال السمر قندي رحمه الله تعالى: ما فعل لله قُِبلَ وما فعل من أجل الناس رُدَّ . ومثال ذلك من صلى الظهر مثلاً وقصد أداء ما فرض الله تعالى عليه ولكنه طول أركانه وقراءتها وحسَّن هيئتها من أجل الناس ، فأصل الصلاة مقبول ، وأما طوله وحسنه من أجل الناس فغير مقبول لأنه قصد به الناس .
وسئل الشيخ عز الدين ابن عبد السلام : عمن صلى فطول صلاته من أجل الناس ؟ فقال : أرجو أن لا يحبط عمله هذا كله إذا حصل التشريك في صفة العمل ، فإن حصل في أصل العمل بأن صلى الفريضة من أجل الله تعالى والناس ، فلا تقبل صلاته لأجل التشريك في أصل العمل ، وكما أن الرياء في العمل يكون في ترك العمل . قال الفضيل بن عياض: ترك العمل من أجل الناس رياء والعمل من أجل الناس شرك ، والاخلاص ان يعافيك الله منهما .
ومعنى كلامه رحمه الله تعالى أن من عزم على عبادة وتركها مخافة أن يراها الناس ، فهو مُراءٍ لأنه ترك العمل لأجل الناس ، أما لو تركها ليصليها في الخلوة فهذا مستحب إلا أن تكون فريضة ، أو زكاة واجبة ، أو يكون عالماً يقتدى به ، فالجهر بالعبادة في ذلك أفضل ، وكما أن الرياء محبط للعمل كذلك التسميع ، وهو أن يعمل لله في الخلوة ثم يحدث الناس بما عمل ، قال صلى الله عليه وسلم: (( من سمع سمع الله به ومن راءى راءى الله به )).
قال العلماء : فإن كان عالماً يقتدى به وذكر ذلك تنشيطاً للسامعين ليعملوا به فلا بأس . قال المرزباني ، رحمه الله تعالى عليه : يحتاج المصلى إلى اربع خصال حتى ترفع صلاته : حضور القلب ، وشهود العقل ، وخضوع الأركان ، وخشوع الجوارح ، فمن صلَّى بلا حضور قلب فهو مصلٍ لاهٍ ، ومن صلى بلا شهود عقل فهو مصل ساهٍ ، ومن صلى بلا خضوع الجوارح فهو مصل خاطىء ، ومن صلى بهذه الأركان فهو مصلٍ وافٍ .
قوله صلى الله عليه وسلم : (( إنما الأعمال بالنيات )) أراد بها أعمال الطاعات دون أعمال المباحات ، قال الحارث المحاسبي : الإخلاص لا يدخل في مباح ، لأنه لا يشتمل على قربة ولا يؤدي إلى قربة ، كرفع البنيان لا لغرض الرعونة ، أما إذا كان لغرض كالمساجد والقناطر والأربطة فيكون مستحباً . قال : ولا إخلاص في محرم ولا مكروه ، كمن ينظر إلى ما لا يحل له النظر إليه ، ويزعم أنه ينظر إليه ليتفكر في صنع الله تعالى ، كالنظر إلى الأمرد ، وهذا لا إخلاص فيه بل لا قربة البتة ، قال : فالصدق في وصف العبد في استواء السر والعلانية والظاهر والباطن ، والصدق يتحقق بتحقق جميع المقامات والأحوال حتى إن الإخلاص يفتقر إلى الصدق ، والصدق لا يفتقر إلى شيء . لأن حقيقة الإخلاص هو إرادة الله تعالى بالطاعة ، فقد يريد الله بالصلاة ولكنه غافل عن حضور القلب فيها ، والصدق هو إرادة الله تعالى بالعبادة مع حضور القلب إليه ، فكل صادق مخلص ، وليس كل مخلص صادقاً ، وهو معنى الاتصال والانفصال ، لأنه انفصل عن غير الله واتصل بالحضور بالله ، وهو معنى التخلي عما سوى الله والتحلي بالحضور بين يدي الله سبحانه وتعالى .
قوله صلى الله عليه وسلم : (( إنما الأعمال )) يحتمل : إنما صحة الأعمال أو تصحيح الأعمال ، أو قبول الأعمال ، أو كمال الأعمال ، وبهذا أخذ الإمام أبو حنيفة رحمه الله تعالى ، ويستثنى من الأعمال ما كان قبيل التروك كإزالة النجاسة ، ورد الغصوب والعواري ، وإيصال الهدية وغير ذلك ، فلا تتوقف صحتها على النية المصححة ، ولكن يتوقف الثواب فيها على نية التقرب ، ومن ذلك ما إذا أطعم دابته ، إن قصد بإطعامها امتثال أمر الله تعالى فإنه يثاب ، وإن قصد بإطعامها حفظ المالية فلا ثواب ، ذكره القرافي ، ويستثنى من ذلك فرس المجاهد ، إذا ربطها في سبيل الله فإنها إذا شربت وهو لا يريد سقيها أثيب على ذلك كما في صحيح البخاري ، وكذلك الزوجة وكذلك إغلاق الباب وإطفاء المصباح عند النوم إذا قصد به امتثال أمر الله أثيب وإن قصد أمراً آخر فلا .
واعلم أن النية لغة : القصد ، يقال نواك الله بخير : أي قصدك به . والنية شرعاً : قصد الشيء مقترناً بفعله ، فإن قصد وتراخى عنه فهو عزم ، وشرعت النية لتمييز العادة من العبادة أو لتمييز رتب العبادة بعضها عن بعض ، مثال الأول : الجلوس في المسجد قد يقصد للاستراحة في العادة ، وقد يقصد للعبادة بنية الاعتكاف ، فالمميز بين العبادة والعادة هو النية ، وكذلك الغسل : يقصد به تنظيف البدن في العادة ، وقد يقصد به العبادة فالمميز هو النية وإلى هذا المعنى أشار النبي صلى الله عليه وسلم حين سئل عن الرجل يقاتل رياء ويقاتل حمية ويقاتل شجاعة ، أي ذلك في سبيل الله تعالى ؟ فقال: (( من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله تعالى )) ومثال الثاني وهو المميز رتب العبادة ، كمن صلى أربع ركعات قد يقصد إيقاعها عن صلاة الظهر وقد يقصد إيقاعها عن السنن فالمميز هو النية ، وكذلك العتق قد يقصد به الكفارة وقد يقصد به غيرها كالنذر ونحوه ، فالمميز هو النية .
وفي قوله صلى الله عليه وسلم : (( وإنما لكل امرىء ما نوى )) دليل على أنه لا تجوز النيابة في العبادات ، ولا التوكيل من نفس النية ، وقد استثني من ذلك تفرقة الزكاة وذبح الأضحية ، فيجوز التوكيل فيهما في النية والذبح ، والتفرقة مع القدرة على النية . وفي الحج : لا يجوز ذلك مع القدرة ودفع الدين ، أما اذا كان على جهة واحدة لم يحتج إلى نية ، وإن كان على جهتين كمن عليه ألفان بأحدهما رهن فإدى ألفاً قال جعلته عن ألف الرهن ، صدق ، فإن لم ينو شئياً حالة الدفع ، ثم نوى بعد ذلك ، وجعله عما شاء وليس لنا نية تتأخر عن العمل وتصح إلا هنا .
قوله صلى الله عليه وسلم ( فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله ، ومن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها أو امرأة ينكحها فهجرته إلى ما هاجر إليه )).
أصل المهاجرة المجافاة والترك ، فاسم الهجرة يقع على رموز :
الأولى : هجرة الصحابة رضي الله عنهم من مكة إلى الحبشة حين آذى المشركون رسول الله صلى الله عليه وسلم ،ففروا منه إلى النجاشي ، وكانت هذه بعد البعثة بخمس سنين ، قاله البيهقي .
الهجرة الثانية : من مكة إلى المدينة وكانت هذه بعد البعثة بثلاث عشرة سنة ، وكان يجب على كل مسلم بمكة أن يهاجر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة ، وأطلق جماعة أن الهجرة كانت واجبة من مكة إلى المدينة ،وهذا ليس على إطلاقه فإنه لا خصوصية للمدينة ، وإنما الواجب الهجرة إلى رسول الله صلى عليه وسلم قال ابن العربي : قسم العلماء رضي الله عنهم الذهاب في الأرض هرباً وطلباً ، فالأول ينقسم إلى ستة أقسام :
(الأول): الخروج من دار الحرب إلى دار الإسلام وهي باقية إلى يوم القيامة ،و التي انقطعت بالفتح في قوله صلى الله عليه وسلم : (( لا هجرة بعد الفتح )) . هي القصد إلى رسول الله صلى عليه وسلم حيث كان .
(الثاني): الخروج من أرض البدعة ، قال ابن القاسم : سمعت مالكاً يقول : لا يحل لأحد أن يقيم بأرض يُسَبُ فيها السلف.
(الثالث) : الخروج من أرض يغلب عليها الحرام ، فإن طلب الحلال فريضة على كل مسلم .
(الرابع) : الفرار من الأذية في البدن ، وذلك فضل من الله تعالى أرخص فيه ، فإذا خشي على نفسه في مكان فقد أذن الله تعالى له في الخروج عنه ، والفرار بنفسه يخلصها من ذلك المحذور ، وأول من فعل ذلك إبراهيم عليه السلام حيث خاف من قومه فقال :{إٍنًّي مُهَاجِر ُ إِلى رَبًّي } [العنكبوت :26] . وقال تعالى مخبراً عن موسى عليه السلام : {فَخَرَجَ مِنْهَا خَائِفَاَ يَتَرَقَّب ُ} [القصص:21].
(الخامس): الخروج خوف المرض في البلاد الوخمة ، إلى الأرض النزهة ، وقد أذن صلى الله عليه وسلم للعرنيين في ذلك حين استوخموا المدينة أن يخرجوا إلى المرج .
(السادس) الخروج خوفاً من الأذية في المال ، فإن حرمة مال المسلم كحرمة دمه .
وأما قسم الطلب ، فإنه ينقسم إلى عشرة : طلب دين وطلب دنيا ، وطلب الدين ينقسم إلى تسعة أنواع :
(الأول) سفر العبرة قال الله تعالى :{أَوَ لَمْ يَسِيْروُا فِي الأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذينَ مِنْ قَبْلهِم } [الروم:9]. وقد طاف ذو القرنين في الدنيا ليرى عجائبها .
(الثاني) : سفر الحج .
(الثالث): سفر الجهاد.
(الرابع) : سفر العبرة المعاش.
(الخامس): سفر التجارة والكسب الزائد على القوت ، وهو جائز لقوله تعالى : {لَيْسَ عَلْيكُمْ جُنَاحُ أَنْ تَبْتغُوا فَضْلاً مِنْ رَبَّكم } [البقرة : 198].
(السادس) : طلب العلم .
(السابع) :قصد البقاع الشريفة ، قال صلى الله عليه وسلم : ((لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد )).
(الثامن) : قصد الثغور للرباط بها .
(التاسع): زيارة الإخوان في الله تعالى ، قال صلى الله عليه وسلم: (( زار رجل أخاً له في قرية ، فأرسل الله ملكاً على مدرجته . فقال : أين تريد ؟ قال : أريد أخاً لي في هذه القرية ، فقال : هل له عليك من نعمة تؤديها قال : لا ، إلا أنني أحبه في الله تعالى قال : فإني رسول الله إليك بأن الله أحبك كما أحببته )). رواه مسلم . وغيره .
الثالثة: هجرة القبائل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ليتعلموا الشرائع ويرجعوا إلى قومهم فيعلموهم .
الرابعة : هجرة من أسلم من أهل مكة ليأتي النبي صلى الله عليه وسلم ثم يرجع إلى قومه .
الخامسة : الهجرة من بلاد الكفر إلى بلاد الإسلام ، فلا يحل للمسلم الإقامة بدار الكفر ، قال الماوردي : فإن صار له بها أهل وعشيرة ، وأمكنة إظهار دينه ،لم يجز له أن يهاجر ، لأن المكان الذي هو فيه قدر دار إسلام .
السادسة : هجرة المسلم أخاه فوق ثلاثة ، بغير سبب شرعي ، وهي مكروهة في الثلاثة ، وفيما زاد حرام إلا لضرورة.
السابعة : هجرة الزوج الزوجة إذا تحقق نشوزها قال تعالى {واهْجُرُوهُنَّ فِي اَلمَضَاجِع ِ} [ النساء :34]. ومن ذلك هجرة أهل المعاصي في المكان ،و الكلام ،و جواب السلام وابتداؤه .
الثامنة : هجرة ما نهى الله عنه ، وهي أعم الهجر.
قوله صلى الله عليه وسلم : (( فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله )) : أي نية وقصداً فهجرته إلى الله ورسوله حكماً وشرعاً.
(( ومن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها .. الخ )) نقلوا أن رجلاً هاجر من مكة إلى المدينة لا يريد بذلك فضيلة الهجرة وإنما هاجر ليتزوج امرأة تسمى أم قيس ، فسمي مهاجر أم قيس . فإن قيل النكاح من مطلوبات الشرع فْلمَ كان من مطلوبات الدنيا؟ قيل في الجواب : إنه لم يخرج في الظاهر لها ، وإنما خرج في الظاهر للهجرة ، فلما أبطن خلاف ما أظهر استحق العتاب واللوم ،وقيس بذلك من خرج في الصورة الظاهرة لطلب الحج وقصد التجارة وكذلك الخروج لطلب العلم إذا قصد به حصول رياسة أو ولاية .
قوله صلى الله عليه وسلم : (( فهجرته إلى ما هاجر إليه )) يقتضي أنه لا ثواب لمن قصد بالحج التجارة والزيارة ، وينبغي حمل الحديث على ما إذا كان المحرك الباعث له على الحج إنما هو التجارة ، فإن كان الباعث له الحج فله الثواب ، والتجارة تبع له إلا أنه ناقص الأجر عمن أخرج نفسه للحج ، وإن كان الباعث له كليهما فيحتمل حصول الثواب لأن هجرته لم تتمخص للدنيا ، ويحتمل خلافه لأنه قد خلط عمل الآخرة بعمل الدنيا ، لكن الحديث رتب فيه الحكم على القصد المجرد ، فأما من قصدهما لم يصدق عليه أنه قصد الدنيا فقط ، والله سبحانه وتعالى أعلم .
من تحفظ الحديث الاول تسجل اسمها فورا وتحفظه لاول شخص يخطر ببالها
المعنى العام:· بناء الإسلام: يشبِّه رسولُ الله صلى الله عليه وسلم الذي جاء به -والذي يخرج به
الإنسان من دائرة الكفر ويستحق عليه دخول الجنة والمباعدة من النار- بالبناء المحكم، القائم على أسس وقواعد ثابتة، ويبين أنَّ هذه القواعد التي قام عليها وتم هي:
1- شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله: ومعناها الإقرار بوجود الله تعالى ووَحدانيته، والتصديق بنبوة محمد صلى الله عليه وسلم ورسالته، وهذا الركن هو كالأساس بالنسبة لبقية الأركان، وقال عليه الصلاة والسلام:" من قال لا إله إلا الله مخلصاً دخل الجنة". حديث صحيح أخرجه البزار.
2- إقام الصلاة: والمراد المحافظة على الصلاة والقيام بها في أوقاتها، وأداؤها كاملة بشروطها وأركانها، ومراعاة آدابها وسننها، حتى تؤتي ثمرتها في نفس المسلم فيترك الفحشاء والمنكر، قال تعالى: {وَأَقِمْ الصَّلاةَ إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنْ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ} [العنكبوت: 45].
3- إيتاء الزكاة: وهي إعطاء نصيب معين من المال -ممن ملك النصاب، وتوفرت فيه شروط الوجوب والأداء - للفقراء والمستحقين.
4- الحج: وهو قصد المسجد الحرام في أشهر الحج، وهي شوال وذو القعدة والعشر الأول من ذي الحجة، والقيام بما بينه رسول الله صلى الله عليه وسلم من مناسك، وهو عبادة مالية وبدنية تتحقق فيه منافع كثيرة للفرد والمجتمع، وهو فوق ذلك كله مؤتمر إسلامي كبير، ومناسبة عظيمة لالتقاء المسلمين من كل بلد. ولذا كان ثواب الحج عظيماً وأجره وفيراً، قال عليه الصلاة والسلام " الحجُّ المبرورُ ليس له جزاءٌ إلا الجنة "متفق عليه. وقد فُرِض الحج في السنة السادسة(1) من الهجرة بقوله تعالى: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنْ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلا} [ آل عمران: 97] .
5- صوم رمضان: وقد فرض في السنة الثانية للهجرة بقوله تعالى: {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنْ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمْ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} [البقرة: 185]. وهو عبادة فيها تطهير للنفس، وسمو للروح، وصحة للجسم، ومن قام بها امتثالاً لأمر الله وابتغاء مرضاته كان تكفيراً لسيئاته وسبباً لدخوله الجنة.
· ومن أتى بهذه الأركان كاملة كان مسلماً كامل الإيمان، ومن تركها جميعاً كان
كافراً قطعاً.
· غاية العبادات: ليس المراد بالعبادات في الإسلام صورها وأشكالها، وإنما المراد غايتها
ومعناها مع القيام بها، فلا تنفع صلاة لا تنهى عن الفحشاء والمنكر، كما لا يُفيد صومٌ لا يترك فاعلُه الزورَ والعمل به، كما لا يُقبل حج أو زكاة فعل للرياء والسمعة. ولا يعني ذلك ترك هذه العبادات إذا لم تحقق ثمرتها، إنما المراد حمل النفس على الإخلاص بها وتحقيق المقصود منها.
· شعب الإيمان: وليست هذه الأمور المذكورة في الحديث هي كل شيء في الإسلام،
وإنما اقتصر على ذكرها لأهميتها، وهناك أمور كثيرة غيرها؛ قال عليه الصلاة والسلام : " الإيمان بِضْعٌ وسبعونَ شعبة " متفق عليه.
· يُفيد الحديث أن الإسلام عقيدة وعمل، فلا ينفع عمل دون إيمان، كما أنه لا وجود
موضوع: رد: همـة المسلـم وارادته ... في حفظ الأربعون النووية الثلاثاء يناير 01, 2008 10:00 pm
رقم الحديث : 4
عن أبي عبد الرحمن عبد الله بن مسعـود رضي الله عنه ، قال : حدثنا رسول الله صلي الله عليه وسلم – وهو الصادق المصدوق - ( إن أحـدكم يجمع خلقه في بطن أمه أربعين يوما نطفه ، ثم يكون علقة مثل ذلك ، ثم يكون مـضغـة مثل ذلك ، ثم يرسل إليه الملك ، فينفخ فيه الروح ، ويـؤمر بأربع كلمات : بكتب رزقه ، واجله ، وعمله ، وشقي أم سعيد ؛ فوالله الـذي لا إلــه غـيره إن أحــدكم ليعـمل بعمل أهل الجنه حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعـمل بعـمل أهــل النار فـيـدخـلها . وإن أحدكم ليعمل بعمل أهل النار حتي ما يكون بينه وبينها إلا ذراع فــيسـبـق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل الجنة فيدخلها ) رواه البخاري [ رقم : 3208 ] ومسلم [ رقم : 2643 ].
موضوع: رد: همـة المسلـم وارادته ... في حفظ الأربعون النووية الثلاثاء يناير 01, 2008 10:01 pm
مفردات الحديث:
" المصدوق": فيما أوحي إليه، لأن الملك جبيريل يأتيه بالصدق، والله سبحانه وتعالى يصدقه فيما وعده به.
" يُجمع " يُضَم ويُحفظ، وقيل : يُقَدَّر ويُجمع.
" في بطن أمه ": في رحمها.
" نطفة": أصل النطفة الماء الصافي، المراد هنا: منياً.
" علقة": قطعة دم لم تيبس، سميت " علقة ".
" فيسبق عليه الكتاب ": الذي سبق في علم الله تعالى.
المعنى العام:
1- أطوار الجنين في الرحم: يدل هذا الحديث على أن الجنين يتقلب في مئة وعشرين يوماً في ثلاثة أطوار، في كل أربعين يوماً منها يكون في طور؛ فيكون في الأربعين الأولى نطفة، ثم في الأربعين الثانية علقة، ثم في الأربعين الثالثة مضغة، ثم بعد المئة وعشرين يوماً ينفخ فيه الملك الروح، ويكتب له هذه الكلمات الأربعة.
والحكمة في خلق الله تعالى للإنسان بهذا الترتيب ووفق هذا التطور والتدرج من حال إلى حال، مع قدرته سبحانه وتعالى على إيجاده كاملاً في أسرع لحظة : هي انتظام خلق الإنسان مع خلق كون الله الفسيح وفق أسباب ومسببات ومقدمات ونتائج، وهذا أبلغ في تبيان قدرة الله.. كما نلحظ في هذا التدرج تعليم الله تعالى لعباده التأني في أمورهم والبعد عن التسرع والعجلة، وفيه إعلام الإنسان بأن حصول الكمال المعنوي له إنما يكون بطريق التدريج نظير حصول الكمال الظاهر له بتدرجه في مراتب الخلق وانتقاله من طور إلى طور إلى أن يبلغ أشده، فكذلك ينبغي له في مراتب السلوك أن يكون على نظير هذا المنوال.
2- نفخ الروح: اتفق العلماء على أن نفخ الروح في الجنين يكون بعد مضي مئة وعشرين يوماً على الاجتماع بين الزوجين، وذلك تمام أربعة أشهر ودخوله في الخامس، وهذا موجود بالمشاهدة وعليه يُعوَّل فيما يُحتاج إليه من الأحكام من الاستلحاق ووجوب النفقات، وذلك للثقة بحركة الجنين في الرحم، ومن هنا كانت الحكمة في أن المرأة المتوفى عنها زوجها تعتد أربعة أشهر وعشرة أيام؛ لتحقق براءة الرحم ببلوغ هذه المدة دون ظهور أثر الحمل.
والروح: ما يحيا به الإنسان، وهو من أمر الله تعالى، كما أخبر في كتابه العزيز {وَيَسْأَلُونَكَ عَنْ الرُّوحِ قُلْ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنْ الْعِلْمِ إِلا قَلِيلا} [الإسراء: 85] .
3- تحريم إسقاط الجنين: اتفق العلماء على تحريم إسقاط الجنين بعد نفخ الروح فيه؛ واعتبروا ذلك جريمة لا يحل للمسلم أن يفعله، لأنه جناية على حيٍّ متكامل الخلق ظاهر الحياة.
وإما إسقاط الجنين قبل نفخ الروح فيه حرام أيضاً، وإلى ذلك ذهب أغلب الفقهاء، " وقد رخَّصَ طائفة من الفقهاء للمرأة في إسقاط ما في بطنها ما لم ينفخ فيه الروح وجعلوه كالعزل.
4- إن الله تعالى يعلم أحوال الخلق قبل أن يخلقهم، فما يكون منهم شيء من إيمان وطاعة أو كفر ومعصية، وسعادة وشقاوة؛ إلا بعلم الله وإرادته، وقد تكاثرت النصوص بذكر الكتاب السابق؛ ففي البخاري عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " ما من نفس منفوسة إلا وقد كتب الله مكانها من الجنة أو النار، وإلا قد كتبت شقية أو سعيدة، فقال رجل: يا رسول الله! أفلا نمكث على كتابنا وندع العمل؟ فقال: اعملوا فكلٌّ مَيَسَّرٌ لما خُلِقَ له، أما أهل السعادة فيُيَسَّرون لعمل أهل السعادة، وأما أهل الشقاوة فييسرون لعمل أهل الشقاوة، ثم قرأ: {فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى * وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى} [ الليل: 5-6].
وعلى ذلك فإن عِلْمَ الله لا يَرفع عن العبد الاختيار والقصد؛ لأن العلم صفة غير مؤثرة بل هو صفة كاشفه، وقد أمر الله تعالى الخلق بالإيمان والطاعة، ونهاهم عن الكفر والمعصية، وذلك برهان على أن للعبد اختياراً وقصداً إلى ما يريد، وإلا كان أمر الله تعالى ونهيه عبثاً، وذلك محال، قال الله تعالى: {وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا * فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا * قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا} [الشمس: 7-10].
5- الاحتجاج بالقدر: لقد أمرنا الله تعالى بالإيمان به وطاعته، ونهانا عن الكفر به سبحانه وتعالى ومعصيته، وذلك ما كلفنا به، وما قدره الله لنا أو علينا مجهول لا علم لنا به ولسنا مسؤولين عنه، فلا يحتج صاحب الضلالة والكفر والفسق بقدر الله وكتابته وإرادته قبل وقوع ذلك منه قال الله تعالى: {وَقُلْ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ} [التوبة: 105].
أما بعد وقوع المقدور فيكون الاحتجاج بالقدر مأذوناً به، لما يجد المؤمن من راحة عند خضوعه لقضاء الله تعالى، وقضاء الله تعالى للمؤمن يجري بالخير في صورتي السراء والضراء.
قال ابن حجر الهيتمي: إن خاتمة السوء تكون - والعياذ بالله - بسبب دسيسة باطنية للعبد، ولا يطلع عليها الناس، وكذلك قد يعمل الرجل عمل أهل النار وفي باطنه خصلة خير خفية تغلب عليه آخر عمره فتوجب له حسن الخاتمة. انتهى.
وهذا يوضح رواية ثانية للحديث: "إن أحدكم ليعمل بعمل أهل الجنة فيما يبدو للناس … وإن أحدكم ليعمل بعمل أهل النار فيما يبدو للناس … " (متفق عليه).
موضوع: رد: همـة المسلـم وارادته ... في حفظ الأربعون النووية الثلاثاء يناير 01, 2008 10:01 pm
رقم الحديث : 5
عن أُمِّ المُؤمِنينَ أُمِّ عَبْدِ الله عائِشَةَ رَضي اللهُ عنها قالَتْ: قالَ رسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: " مَنْ أَحْدَثَ في أَمْرِنا هذا ما لَيْسَ منهُ فَهُوَ رَدٌّ ". رَواهُ البُخارِيُّ ومُسْلمٌ. وفي رِوايَةٍ لمُسْلمٍ " : مَنْ عَمِلَ عَمَلاً لَيْسَ عليه أَمْرُنا فَهُوَ رَدٌّ ".
مفردات الحديث:
" من أحدث ": أنشأ واخترع من قِبَل نفسه وهواه.
" في أمرنا ": في ديننا وشرعنا الذي ارتضاه الله لنا.
" فهو رد": مردود على فاعله لبطلانه وعدم الإعتداد به.
المعنى العام:
الإسلام اتباع لا ابتداع: والرسول الكريم صلوات الله وسلامه عليه حفظ الإسلام من غلو المتطرفين وتحريف المبطلين بهذا الحديث الذي يعتبر من جوامع الكلم، وهو مستمد من آيات كثيرة في كتاب الله عز وجل، نَصَّت على أن الفلاح والنجاة في اتباع هدى رسول الله صلى الله عليه وسلم دون تزيُّدٍ أو تَنَطُّعٍ، كقوله تعالى: {قلْ إنْ كُنْتم تحِبُّونَ اللهَ فاتّبعُوني يُحببْكُم الله} [آل عمران:31].
وروى مسلم في صحيحه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول في خطبته:
"خير الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة".
الأعمال المردودة: والحديث نص صريح في رد كل عمل ليس عليه أمر الشارع؛ ومنطوقه يدل على تقييد الأعمال بأحكام الشريعة، واحتكامها كأفعال للمكلفين بما ورد في كتاب الله أو سنة رسوله صلى الله عليه وسلم من أوامر ونواهٍ، والضلال كل الضلال أن تخرج الأعمال عن نطاق أحكام الشريعة فلا تتقيد بها، وأن تصبح الأعمال حاكمة على الشريعة لا محكومة لها، ومن واجب كل مسلم حينئذ أن يحكم عليها بأنها أعمال باطلة ومردودة، وهي قسمان: عبادات ومعاملات.
أ- أما العبادات: فما كان منها خارجاً عن حكم الله ورسوله بالكلية فهو مردود على صاحبه ومثال ذلك أن يتقرب إلى الله تعالى بسماع الأغاني، أو بالرقص، أو بالنظر إلى وجوه النساء.
ب- وأما المعاملات: كالعقود والفسوخ، فما كان منافياً للشرع بالكلية فهو باطل ومردود، دليل ذلك ما حدث في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، فقد جاءه سائل يريد أن يغير حد الزنى المعهود إلى فداء من المال والمتاع، فرد عليه النبي صلى الله عليه وسلم في الحال وأبطل ما جاء به، روى البخاري ومسلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم جاءه سائل فقال: " إن ابني كان عسيفاً (أجيراً) على فلان فزنى بامرأته، فافتديت منه بمائة شاة وخادم ؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: المئة الشاة والخادم ردٌّ عليك، وعلى ابنك جلد مئة وتغريب عام".
الأعمال المقبولة: وهناك أعمال وأمور مستحدثة، لا تنافي أحكام الشريعة، بل يوجد في أدلة الشرع وقواعده ما يؤيدها، فهذه لا ترد على فاعلها بل هي مقبولة ومحمودة، وقد فعل الصحابة رضوان الله عليهم كثيراً من ذلك واستجازوه، وأجمعوا على قبوله، وأوضح مثال على ذلك جمع القرآن في عهد أبي بكر الصديق رضي الله عنه في مصحف واحد، وكتابة نسخ منه وإرسالها إلى الأمصار مع القراء في عهد عثمان بن عفان رضي الله عنه..
إن بعض الأعمال المستحدثة المخالفة لشرع الله هي بدع سيئة وضالة، وبعض الأعمال المستحدثة لا تخالف الشرع، بل هي موافقة له مقبولة فيه، فهذه أعمال مقبولة ومحمودة، ومنها ما هو مندوب، ومنها ما هو فرض كفاية، ومن هنا قال الشافعي رحمه الله تعالى: " ما أُحدِثَ وخالف كتاباً أو سنة أو إجماعاً أو أثراً فهو البدعة الضالة، وما أُحْدِثَ من الخير ولم يخالف شيئاَ من ذلك فهو البدعة المحمودة ".
يفيد الحديث: أن من ابتدع في الدين بدعة لا توافق الشرع فإثمها عليه، وعمله مردود عليه، وأنه يستحق الوعيد.
وفيه أن النهي يقتضي الفساد. وأن الدين الإسلامي كامل لا نقص فيه. __________________
موضوع: رد: همـة المسلـم وارادته ... في حفظ الأربعون النووية الثلاثاء يناير 01, 2008 10:02 pm
رقم الحديث : 6
عَنْ أبي عَبْدِ اللهِ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُما قَالَ : سمعتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: " إن الْحَلالَ بَيِّنٌ وَإنَّ الْحَرَامَ بَيِّنٌ وَبَيْنَهُما أمور مُشْتَبِهَاتٌ لا يَعْلَمُهُنَّ كَثيِرٌ مِنَ الناسِ، فَمَنِ اتَّقَى الشُّبُهَاتِ اسْتَبْرَأَ لِدِينِهِ وَعِرْضِهِ، وَمَنْ وَقَعَ في الشَّبُهاتِ وَقَعَ في الْحَرَامِ، كالرَّاعِي يَرْعَى حَوْلَ الْحِمَى يُوشِك أَنْ يَرْتَعَ فِيهِ، أَلا وَإنَّ لِكُلِّ مَلِكٍ حِمىً أَلا وَإنَّ حِمَى الله مَحَارِمُه، أَلا وَإنَّ في الجَسَدِ مُضْغَةً إذَا صَلَحَتْ صَلَحً الْجَسَدُ كُلُّهُ وإذَا فَسَدَتْ فَسَدَ الْجَسَدُ كُلُّهُ، أَلا وَهِيَ الْقَلْب" رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ.
مفردات الحديث:
" بَيِّن ": ظاهر .
" مُشْتَبِهَات ": جمع مشتبه، وهو المشكل؛ لما فيه من عدم الوضوح في الحل والحرمة.
" لا يَعْلَمُهُنَّ ": لا يعلم حكمها.
" اتَّقَى الشُّبُهَاتِ ":ابتعد عنها، وجعل بينه وبين كل شبهة أو مشكلة وقاية.
" اسْتَبْرَأَ لِدِينِهِ وَعِرْضِهِ ": طلب البراءة أو حصل عليها لعرضه من الطعن ولدينه من النقص، وأشار بذلك إلى ما يتعلق بالناس وما يتعلق بالله عز وجل.
" الْحِمَى": المحمي، وهو المحظور على غير مالكه.
" أَنْ يَرْتَعَ فِيهِ": أن تأكل منه ماشيته وتقيم فيه.
" مضغة ": قطعة من اللحم قدر ما يُمضغ في الفم.
المعنى العام :
الحلال بَيِّن والحرام بَيِّن، وبينهما أمور مشتبهات: معناه أن الأشياء ثلاثة أقسام : حلال واضح، لا يخفى حله، كأكل الخبز، والكلام، والمشي، وغير ذلك.. وحرام واضح؛ كالخمر والزنا، ونحوهما.. وأما المشتبهات: فمعناه أنها ليست بواضحة الحل والحرمة، ولهذا لا يعرفها كثير من الناس، وأما العلماء فيعرفون حكمها بنص أو قياس، فإذا تردد الشيء بين الحل والحرمة ولم يكن نص ولا إجماع اجتهد فيه المجتهد، فألحقه بأحدهما بالدليل الشرعي.
ومن الورع ترك الشبهات مثل عدم معاملة إنسان في ماله شبهة أو خالط ماله الربا، أو الإكثار من مباحات تركها أولى .
أما ما يصل إلى درجة الوسوسة من تحريم الأمر البعيد فليس من المشتبهات المطلوب تركها، ومثال ذلك: ترك النكاح من نساء في بلد كبير خوفاً من أن يكون له فيها محرم، وترك استعمال ماء في فلاة، لجواز تنجسه.. فهذا ليس بورع، بل وسوسة شيطانية.
وقال الحسن البصري: ما زالت التقوى بالمتقين حتى تركوا كثيراً من الحلال مخافة الحرام.
وروى عن ابن عمر أنه قال: إني لأحب أن أدع بيني وبين الحرام سترة من الحلال لا أخرقها.
لكل ملك حمى، وإن حمى الله في أرضه محارمه : الغرض من ذكر هذا المثل هو التنبيه بالشاهد على الغائب وبالمحسوس على المجرد، فإن ملوك العرب كانت تحمي مراعي لمواشيها وتتوعد من يقربها، والخائف من عقوبة الملك يبتعد بماشيته خوف الوقوع، وغير الخائف يتقرب منها ويرعى في جوارها وجوانبها، فلا يلبث أن يقع فيها من غير اختياره، فيعاقب على ذلك.
ولله سبحانه في أرضه حمى، وهي المعاصي والمحرمات، فمن ارتكب منها شيئاً استحق عقاب الله في الدنيا والآخرة، ومن اقترب منها بالدخول في الشبهات يوشك أن يقع في المحرمات.
صلاح القلب: يتوقف صلاح الجسد على صلاح القلب؛ لأنه أهم عضو في جسم الإنسان، وهذا لا خلاف فيه من الناحية التشريحية والطبية، ومن المُسَلَّم به أن القلب هو مصدر الحياة المشاهدة للإنسان، وطالما هو سليم يضخ الدم بانتظام إلى جميع أعضاء الجسم، فالإنسان بخير وعافية.
والمراد من الحديث صلاح القلب المعنوي، والمقصود منه صلاح النفس من داخلها حيث لا يطلع عليها أحد إلا الله تعالى، وهي السريرة.
صلاح القلب في ستة أشياء قراءة القرآن بالتدبر، وخلاء البطن، وقيام الليل، والتضرع عند السَّحَر، ومجالسة الصالحين. وأكل الحلال .
والقلب السليم هو عنوان الفوز عند الله عز وجل، قال تعالى: {يَوْمَ لا يَنْفَعُ مَالٌ وَلا بَنُونَ * إِلا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} [الشعراء: 88-89].
ويلزم من صلاح حركات القلب صلاح الجوارح، فإذا كان القلب صالحاً ليس فيه إلا إرادة ما يريده الله، لم تنبعث الجوارح إلا فيما يريده الله، فسارعت إلى ما فيه رضاه وكفت عما يكره، وعما يخشى أن يكون مما يكرهه وإن لم يتيقن ذلك.
يفيد الحديث : الحث على فعل الحلال، واجتناب الحرام، وترك الشبهات، والاحتياط للدين والعرض، وعدم تعاطي الأمور الموجبة لسوء الظن والوقوع في المحظور.
الدعوة إلى إصلاح القوة العاقلة، وإصلاح النفس من داخلها وهو إصلاح القلب.