إن التوكل منزل من منازل الدين ومقام من مقامات الموقنين، بل هو من معالي درجات المقرّبـين وهو في نفسه غامض من حيث العلم، ثم هو شاق من حيث العمل، ووجه غموضه من حيث الفهم أنّ ملاحظة الأسباب والاعتماد عليها شرك في التوحيد، والتثاقل عنها بالكلية طعن في السنة وقدح في الشرع، والاعتماد على الأسباب من غير أن ترى أسباباً تغيـير في وجه العقل. وانغماس في غمرة الجهل، وتحقيق معنى التوكل على وجه يتوافق فيه مقتضى التوحيد والنقل والشرع في غاية الغموض والعسر، ولا يقوى على كشف هذا الغطاء مع شدّة الخفاء إلا سماسرة العلماء الذين اكتحلوا من فضل الله تعالى بأنوار الحقائق
فقد قال تعالى: {وَعَلى اللَّهِ فَتَوكَّلُوا إنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} وقال عز وجل: {وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ المُتَوَكِّلُونَ} وقال تعالى: {وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ} وقال سبحانه وتعالى: {إنّ اللَّهَ يُحِبُّ المُتَوَكِّلِينَ} ..
وأعظم بمقام موسوم بمحبة الله تعالى صاحبه، ومضمون بكفاية الله تعالى ملابسه، فمن الله تعالى حسبه وكافيه ومحبه ومراعيه: فقد فاز الفوز العظيم، فإنّ المحبوب لا يعذب ولا يبعد ولا يحجب. وقال تعالى: {أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ} ..
فطالب الكفاية من غيره والتارك للتوكل: هو المكذب لهذه الآية. فإنه سؤال في معرض استنطاق بالحق، كقوله تعالى: {هَلْ أتَى عَلَى الإنْسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئاً مَذْكُوراً} وقال عز وجل: {وَمَنْ يَتَوكَّلْ عَلَى اللَّهِ فإنّ اللَّه عزيزٌ حكيمٌ} أي عزيز لا يذل من استجار به، ولا يضيع من لاذ بجنابه والتجأ إلى ذمامه وحماه، وحكيم لا يقصر عن تدبـير من توكل على تدبـيره. وقال تعالى: {إنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ عِبَادٌ أَمْثَالُكُمْ} بـين أنّ كل ما سوى الله تعالى عبد مسخر حاجته مثل حاجتكم فكيف يتوكل عليه.
وقال تعالى: {إنَّ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُون اللَّهِ لاَ يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقاً فابْتَغُوا عِنْدَ اللَّه الرِّزْقَ واعْبُدُوهُ} وقال عز وجل: {وللَّهِ خَزَائِنُ السَّمَواتِ والأرْضِ وَلكِنَّ المُنَافِقينَ لاَ يفْقَهُونَ} وقال عز وجل: {يُدَبِّرُ الأمْرَ مَا مِنْ شَفِيعٍ إلاَّ مِنْ بَعْدِ إذْنِهِ} وكل ما ذكر في القرآن من التوحيد فهو تنبـيه على قطع الملاحظة عن الأغيار والتوكل على الواحد القهار.
وأما الأخبار، فقد قال فيما رواه ابن مسعود : أريت الأمم في الموسم فرأيت أمتي قد ملؤوا السهل والجبل فأعجبتني كثرتهم وهيئاتهم، فقيل لي: أرضيت؟ قلت: نعم، قيل: ومع هؤلاء سبعون ألفاً يدخلون الجنة بغير حساب. قيل: من هم يا رسول الله، قال: «الَّذينَ لا يَكْتَوُونَ وَلاَ يَتَطَيَّرُونَ وَلا يَسْتَرْقُونَ وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ» فقام عكاشة وقال: يا رسول الله ادع الله أن يجعلني منهم فقال رسول الله : «اللَّهُمَّ اجْعَلْهُ مِنْهُمْ» فقام آخر فقال: يا رسول الله، ادع الله أن يجعلني منهم،
فقال : «سَبَقَكَ بِها عُكاشَةُ» ، وقال : «لَوْ أَنَّكُمْ تَتَوَكَّلُونَ عَلَى اللَّهِ حَقَّ تَوَكُّلِهِ لَرَزَقَكُمْ كَمَا يَرْزُقُ الطَّيْرَ تَغْدُو خِمَاصاً وَتَرُوحُ بِطَاناً»
وقال : «مَن انْقَطَعَ إلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ كَفَاهُ اللَّهُ تَعَالَى كُلَّ مُؤْنَةٍ وَرَزَقَهُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَحْتَسِبُ وَمَنْ انْقَطَعَ إلَى الدُّنْيَا وَكَلَهُ اللَّهُ إلَيْهَا» وقال : «مَنْ سَرَّهُ أَنْ يَكُونَ أَغْنَى النَّاسِ فَلِيَكُنْ بِمَا عِنْدَ اللَّهِ أَوْثَقَ مِنْهُ بِمَا فِي يَدَيْهِ» ويروى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: أنه كان إذا أصاب أهله خصاصة قال: «قُومُوا إلَى الصَّلاةِ» ويقول: «بِهٰذَا أَمَرَنِي رَبِّـي عَزَّ وَجَلَّ» قال عز وجل: {وأَمُرْ أهْلَكَ بالصَّلاَةِ واصطَبرْ عَلَيْهَا} الآية. وقال : «لَمْ يَتَوَكَّلْ مَنْ اسْتَرْقَى وَاكْتَوى» .
المصدر : من كتاب إحياء علوم الدين للإمام الغزالي