كان ممدداً الى طرف السرير منكمشاً إلى نفسه فغطاؤه لم يمتدّ كثيراً ليستر ذراعيه وصدره ، كان متعباً جداً لدرجة أن الساعة قاربت على الثانية عشرة ظهراً وهو غارق في نومه ، استيقظ فزعاً فجأة ربما لشعوره بالبرد يقرص اطرافه السمراء ، هبّ من رقدته واقفاً وسرعان ما نادى على زوجته ..
- رانيا ... رانيا
كانت تقف خلف " قلاية البندورة " وهي ترشّ قليلاً من الملح عليها وتهرسها بملعقة خشبية طويلة ، كان صوتها جميلاً حين كانت تغنّي ، يا زريف الطول وقّف تقولك .. رايح عالغربة وبلادك أحسنلك .. خايف يالمحبوب تروح وتتركني ...
كان صوتها رخيماً جداً ، كأنها تغني لفراخ الحمام الأبيض حين تنثر الذرة إليه بسعادة ، إقترب منها بهدوء واتكأ على جانب باب المطبخ فانتبهت لسكونه والتفتت باسمة
- كمّلي كمّلي .. صوتك حلو
خجلت قليلاً ، ثمّ عادت برأسها حيث كانت وضحكت بخفّة وعادت الى غنائها الجميل فيما هو منطرب ، حتى إذا انتهت مما في يدها وأرادت تجهيز الفطور اعترضها على باب المطبخ ، هي تذهب هكذا وهو يقف لها ، فتذهب هكذا فيقف لها ، ضحكت قائلة
- بعّد ، بدي أجهّز الفطور
كان رائقاً جداً ، فسح لها المجال فوضعت الفطور على عجل ليلحق صلاته ، فجلسا يتآكلان ، صبت له الشاي ثقيلاً كما يحبّ ، ارتشف رشفة وراح يغدق نظراً فيها ..
- إنت مش على بعضك اليوم ... في إشي ؟
ابتسم ، وقبل أن يتحدّث رنّ جرس هاتفه ، طال حديثه مع من اتصل به فملّت هي الجلوس وحدها ، فرفعت الفطور الى المطبخ وراحت تدخل بعض التموين الى خزانات مطبخها ببطء ريثما ينتهي .. أغلق هاتفه منهياً مكالمته صائحاً
- كويتي لي البنطلون الكحلي ، والقميص المقلّم ؟
- آه ، هَيْهُم على باب غرفة الضيوف ..
مضى سريعاً للبس ملابسه ، ولم ينتظرها لتسأله عن وجهته ، فقد تعودت منه ألا يخبرها بأماكن ومواعيد ذهابه أو إيابه ، لربما لأنه لا يحب الالتزام بموعد نتيجة ضغط العمل عليه في الفترة الماضية والحاضرة ... غادر سريعاً ، رمقته بنظرة لم ينتبه لها ، نكّست رأسها وحاولت الانشغال بأي شيء تشاهده في طريقها ..
عاد متأخراً فوجدها مستيقظة قد غطّت طعام العَشاء بأغطية الطناجر ، وجهّزت له رغيفين لم تمسهما يدٌ قبلاً ، سلّم عليها ، واعتذر مسرعاً لتأخره ، وذهب يغيّر ملابسه سريعاً
- أجهّز لك العشا
- لا ، كُلي إنت ... أنا تعشيت !
زادت في عينيها تلك النظرة الأسيانة ، وانسدّت شهيتها عن الطعام الذي حضّرته بيديها التي يلوك منهما كلّ ما لذّ دائماً ، هو بانشغاله عنها - نسيَ - أن يعتذر لها عن عزوفه عن طعامها ليلتهما تلك ، وهي تركته في انشغاله ، وغطّت رأسها بـ " حرامهما " وراحت تحدّث نفسها بشيء من محاولة الصبر على الحاضر ، وربما الآتي ..
مدّ يده تجاه رأسها ، لكن صوت أنفاسها أعاد يده الى صدره يفكّر ، لأول مرة أحسّ أنه يظلمها كثيراً .. كانا كأجمل حبيبين مذ تزوجا ، وفي لياليهما الأولى أسرّ لها أنه سيكون سعيداً وسيحرص على إسعادها .. ظنّ نفسه قد عجز عن تحقيق وعده ، لاح له أن ينظر الى وجهها برفق ، ففعل .. واختبأ خلف سكون ليله تحت " حرامه " داعياً ربه أن يبرّ بها قدر ما تبرّه ولو ليوم واحد في حياتهما !
استيقظت من نومها فجأة ، رمقته بنظرة لكنها استيقظت من نومها فجأة , رمقته بنظرة لكنها لم تكتمل ، سكبت العبرات وجنتيها فراحت تترك لدموعها المجال دون كبت كما تفعل دوماً ، تقلّب في فراشه آخذاً جزءاً كبيراً من " حرامهما " ولم تلتفت إليه ، فاستيقظ لصوت جهشتها .. فاختبأت تحت الحرام سريعاً .. فنظر إليها
- رانيا .. رانيا ، مالك في إشي !!
- لا ، بس مزكّمة شوي ، ارتاح إنت وما تهمل همّ
استيقظ فلم يجدها الى جانبه ، فتّش عنها فلم يعثر لها على أثر .. ظنّ أنها تنشر الغسيل على السطوح ، لكنه انتبه أن اليوم ليس الأربعاء ، الماء يأتي يوماً في الأسبوع فقط ، لكن اليوم هو السبت ، فتّش عنها سريعاً .. رنّ على هاتفها فأسرع لاهثاً الى غرفة النوم ليجد هاتفها على " الكومادينة " يرتجّ متحركاً زحفاً .. التفت الى المطبخ سريعاً ليجدها خلف الثلاجة ممدة بلا حول كعصفور وقع في فخّ فلم تفلح نداءاته الحرّى بتحريك شيء في فضاء لا يٌسمع فيه شيء ..
اضطرب ، وزاغت عيناه ، وراح يحاول فعل شيء .. وجد نفسه جالساً حافياً إلى جوارها ، يداعب خصلات شعرها فيما يترك لدموعه العنان لتكتب شيئاً في نفسه ..
استيقظ فزعاً فجأة ربما لشعوره بالبرد يقرص اطرافه السمراء ، هبّ من رقدته واقفاً وسرعان ما نادى على زوجته ..
- رانيا ... رانيا
كانت تقف خلف " قلاية البندورة " وهي ترشّ قليلاً من الملح عليها وتهرسها بملعقة خشبية طويلة ، كان صوتها جميلاً حين كانت تغنّي ، يا زريف الطول وقّف تقولك .. رايح عالغربة وبلادك أحسنلك .. خايف يالمحبوب تروح وتتركني ... ذهب إليها فزِعاً وكاد أن يجهش بالبكاء أمامها ، وراعها ذلك فمسحت على رأسه تهدئه وتسمي الله عليه ، هدّأته وأتته بماء سريعاً يبلّ ريقه الذي جفّ كأنه أرض خواء تزورها الشمس لا تفارقها .
قصّ عليها ما رأى في منامه ، فسمّت الله وخففت عنه بحنان حروفها إذ تخرج مخبأة من كلّ شيء إلا من رأفة روحها الملائكية ، دعته ليغسل وجهه ويستحمّ ، لا بأس بقليل ماء على حساب الأسبوع كاملاً ، لعلّه يهدأ تحت تيار الماء الساخن ..
- عجّل شوي بالحمام ، عشان نفطر
ذهب واستحمّ وراقت نفسه حين لامست قطرات الماء جسده بخفّة لتنساب على صدره حبة حبة ، ووقفت هي على الباب تنتظر خروجه ، مازحته فوقفت وسط الباب مانعته الخروج كما تفعل دوماً .. فاحتال عليها مبتسماً ليخرج ..
بعّدي ، بدي أوكل الفطور !
ذهِلَ حين ارتعشت خملات لسانه بهذه الكلمة ، كأنه قالها ، فقلق اكثر وامتنع عن تناول طعامه ، رمقته هي بخوف وحنان ، حتى استطاعت أن " تحشي " له ساندويشة زعتر قبل ذهابه للعمل ، حاول عبثاً أن يبعد شبح ذلك الحلم عن طريقه ، سمّى الله وحوقل في قلبه واستغفر ، ذهب الى الخزانة ، رأى البطال الكحليّ والقميص المقلّم .. حاش نظره عنهما ، بل امسك هما ووضعهما في الجارور الأسفل .. فكّر فيما يلبس ، انتقى قميصاً خمرياً وبنطالاً أقرب للبيج ، تعطّر ، ومشط شعره بهدوء ورويّة ، دخلت عليه
- واو ، شو هالحلاوة .. كإنك عريس ناقصه حزامه !
وضحكت هي بخفّة وخجل ، والتفت الى وسطه فلم يجد الحزام ، فنظر الى حاله مستغبياً نفسه ..
- هاتيلي اياه ، هيّو على باب غرفة الضيوف ..
ذهبت حيث قال لها ، نظر الى وجهه في المرآة ، واستعاد سريعاً آخر كلمة قالها ، عرقَ جبينه بسرعة ، فجاءته مبتسمة كعادتها ، فحاول ان يغضّ النظر عن ذلك ويريها أنه نسي امر حلمه تماماً .. تعجّل بالخروج فخرج ، وقبل أن تقفل الباب وراءه عاد فاتحاً الباب ..
- مش راح أطوّل ، بدي أروح على المحلّ بشوف كشف الحسابات وبجيبه معي وباجي ..
ثمّ خرج مرة أخرى ، واستغربت هي تصرفه ذاك ، فقد اعتادت منه ألا يخبرها بأماكن ومواعيد ذهابه أو إيابه ، لربما لأنه لا يحب الالتزام بموعد نتيجة ضغط العمل عليه في الفترة الماضية والحاضرة ... غادر سريعاً بقوة ونشاط ، ولحظته هي دون أن يدري بنظرة من خلف الستارة المطلّة على سيارته التي اشتراها حديثاً .
.
.
مضى بسيارته إذ لمح " أباتشي " تحلّق على مقربة من الحيّ ، فدخل بها في زحام حتى يبعد أي شبهة عن نفسه ، ربما تمسكه بالحياة شدّه لأن يثني الطائرة عن قصف سيارته الحديثة وسط زحام الناس .. لكن الأباتشي لم تحسب له وربما للآخرين حساباً ، واجتثت الصواريخ آخر ما تبقى من روحه عنوة ، فتفجرت الدماء تثعب منه على مقربة من حطام سيارته الجديدة ..
وصلها الخبر عبر هاتفها ، فخرجت سريعة ، تبكي وتنوح ، ربما آخر شيء توقعته أن يكون لهنيّ عيشهما بصمة مقاومة حملها زوجها دون أن تدري ، وصلت المكان والجماهير تغطّي الميدان والدخان كثيف ، أفسحوا لها طريقاً لتمرّ -.. نظراتها الأسيانة التي شاهدها في حلمه يشاهدها الآن .. - أنا اشاهدها الآن أيضاً - ، ودموعها اللؤلؤية لم تكفّ عن المسيل ، ها هنا أصبعه .. ها هنا شعره المسمرّ .. ها هنا ملامح حفظتها عن وجهه .. جلست قرب رأسه ، يد تمسح ما تبقى من نسيج جبهته ، وأخرى تكفكف الدمع عبثاً !